الأربعاء، فبراير 20، 2008

التهمة عانس ... قصة قصيرة


بسم الله الرحمن الرحيم


@@ .. الــتــهــمـــة عــــانـــــس !!! .. @@


دلفت سيدة في أوائل العقد الخامس من عمرها إلى غرفة نوم مظلمة وألقت نظرة حنونة مشفقة على الفتاة النائمة على السرير ثم ذهبت إلى النافذة وجذبت الستائر من عليها لتفتحها سامحة لأشعة الشمس بالمرور وإلقاء نورها ودفئها بالغرفة .
استيقظت الفتاة وقالت ومازال أثر النوم واضح في صوتها :
- أمي .. يا أمي .. كم من مرة قلت لكِ إنني لا أحب فتح نافذة الغرفة خاصة لو كنت نائمة ؟!
إلتفتت إليها الأم قائلة :
- إنكِ لا تفتحي النافذة مطلقاً سواء كنتِ نائمة أو مستيقظة .. وكأنه صار بينكِ وبين الضوء والهواء الطبيعي عداء .
ثم أقتربت من باب الغرفة قائلة :
- هيا استيقظي أصبحنا الظهر .
جلست الفتاة على السرير ، وقالت بمرارة خفية - لم تخفى على الأم - :
- وما الجديد في هذا .
تركتها الأم وأغلقت باب الغرفة خلفها .. وهي ماتزال جالسة على السرير .. وهي تعلم أن ابنتها لن تغادر غرفتها وستظل بداخلها كما هو حالها منذ أشهر .. ولم تجدي أي محاولة منها لتجعلها تعود كسابق عهدها وتكسر هذا الحاجز الذي صنعته بنفسها بينها وبين الجميع .
قامت " سهام " إلى نافذة الغرفة وأغلقتها وأسدلت عليها الستائر كما كانت ، وذهبت متجهة إلى الحاسب الآلي الخاص بها ، لتجهزه للعمل ، وجلست أمامه في انتظار بدء العمل وهي تفكر في والدتها وما تحاول فعله لإخراجها من غرفتها وإندماجها في المجتمع ومع الجميع .. لكن كل محاولاتها لم تجدي لتثنيها عن عزلتها .. لقد قررت أن تبقى بغرفتها مدى الحياة لا تخرج ولا تتعامل مع أحد .
إنها لم تعد ترى في نظرات من حولها سوى الإشفاق تارة والتشفي تارة أخرى ..
وكأن بها علة لا علاج لها وكل هذا لأنها في الثلاثين من عمرها ولم تتزوج بعد .. كل الأقارب والمعارف لاتجتمع بهم إلا ويكون محور الحوار عنها وعن تأخر زواجها .
هل هناك عريس في الطريق ؟؟
من هن في مثل عمرك تزوجن ولهن ابناء يشارفون دخول المدارس !!
وكأن الذنب ذنبها في عدم تزوجها إلى الآن .
لم يقتصر الأمر على هذا وإلا كانت تحملته وصبرت ولكن تعاملات الناس معها تغيرت .. زميلاتها في العمل أصبحن يخافونها وكأنها قنبلة موقتة توشك على الإنفجار في بيوتهن وخطف أزواجهن منهن .. وعلى أساس مخاوفهن التي لا معنى ولا مبرر لها تغيرت معاملتهن لها يخشين الحديث معها خاصة في أمورهن الخاصة كالسابق .. وشيء في شيء أقتصرن معها في كل شيء .. والعلاقة معهن أصبحت جافة شديدة تقتصر على كليمات صغيرة خاصة بالعمل .
أما زملائها - الرجال - يتعاملون معها وكأنها سارت فريسة سهلة المنال بما إنها في الثلاثين من العمر ولم تتزوج فهي ستقبل بما يعرضونه عليها من أمور مهينة فهذا يريد الزواج منها عرفياً في السر ، وهذا يريد يريد الخروج معها .
هل بلوغ الفتاة الثلاثين دون زواج يجعل منها فتاة رخيصة لا كرامة لها ؟!
والطامة الكبرى - القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون - زوجة أخيها التي أصبحت تفتعل معها المشاجرات والمشاحنات وتستفزها باستمرار بكلمات كثيرة جارحة .. ثم تلقي اللوم عليها وتعدي إنها تغار منها لأنها أصغر سناً ومع ذلك فهي زوجة وأم .. والكل يصدق كذبها حتى أخيها صدق زوجته وكأنه ما عاد يعرف اخته التي تربت معه .. فهل أصبحت هي الحقودة الغيورة هكذا فجأة ؟!
كل هذه العوامل جعلتها تعتزل الحياة تقبع بداخل غرفتها تقضي وقتها كله بين اللعب على الحاسب الآلي أو هاتفها المحمول .. أو قراءة بعض القصص والروايات التي تتخذها منفذ للهروب من واقعها المرير إلى عالم الخيال .. سجنت نفسها بنفسها وكل تهمتها في الحياة إنها عانس .. تلك الكلمة البغيضة كم تكرهها ..
نفضت كل هذه الأفكار والذكريات - التي تهرب منها بشتى الطرق- عن ذهنها .. فهي تغرق نفسها في ممارسة الألعاب الإلكترونية وعالم الروايات والخيال حتى لا تتذكر حالها ولا تفكر فيه مطلقاً ، حتى يغلبها النوم أخر اليوم فتلقي جسدها على السرير وتذهب في نوم عميق لات فكير قبله يؤرق مضجعها .. وتستغرق أكبر وقت ممكن من الوقت في النوم ..
للمرة الثانية تبعد ذهنها عن التفكير في حالها وتضع فكرها كله في شاشة الحاسب الآلي والألعاب الإلكترونية .
مازلت على حالتها هذه من إنطواء وبُعد تام ..
إلى أن جاء يوم دخلت عليها والدتها وهي جالسة أمام الحاسب الآلي .. لتخبرها بوجود من يرغب في مقابلتها .. وعلى وجهها إمارات سعادة واضحة .
تعجبت وسألت والدتها :
- من يرغب في مقابلتي ؟!
- اخرجي لتري بنفسك .
هكذا ردت الأم وتركتها في حيرتها وغادرت الغرفة سريعًا - كي لا تترك لها فرصة لمزيد من التساؤلات أو رفض الخروج من الغرفة .
غادرت غرفتها لرؤية ضيفها وهي تتسأل في نفسها عن شخصية هذا الضيف المجهول والذي جعل أمها سعيدة هكذا بوجوده ؟!
دخلت غرفة استقبال الضيوف ووقع بصرها على أخر من توقعت رؤيته - أو رؤيتها إن شئنا الدقة - في هذا الوقت وهذا المكان إنها صديقتها الصدوقة .. صديقة الطفولة والصبا والشباب .. رفيقة سنين طوال وأحلام وردية ..لم يفترقا منذ طفولتهن قط إلا بعد زواج صديقتها وسفرها مع زوجها للخارج . وقفت كل منهن تحدق في الأخرى وبداخل كل واحدة منهن فيض من الذكريات بحلوها ومرها وفجأة أنقطع الصمت وأرتمت كل واحدة في حضن صاحبتها .
وبعد الاستقبال الحار ..و الإطمئنان على بعضهن البعض .. جلسن سويًا في غرفة " سهام " كالأيام الخوالي وفاضت كل واحدة منهن للأخرى بمكنونات صدرها وأخبار حياتها .. علمت " سهام" أخبار صديقتها وأنه اصبخ لديها طفلان الآن وأنها أخير ستعود لتستقر على أرض الوطن .. وأخبرت " سهام" صديقتها عن حياتها وما سارت إليه أحوالها . .
ساد الصمت بينهن قليلاً لتقطعه الصديقة ، قائلة :
- أنا في حاجة إليكِ يا " سهام " .
نظرت لها " سهام " في تعجب ورددت :
- في حاجة لي أنا ؟!!
قالت صديقتها في حماس شديد :
- نعم .. في حاجة إليكِ أنتِ .. ألا تذكرين حلمنا القديم أن نشترك معاً في عمل مشروع وحددنا معاً مجال الملابس الجاهزة ؟ ألا تذكرين أننا حددنا المهام أيضًا ، أنتِ عليكِ الأمور الفنية من تصميمات وتفصيلات وأنا مسئولة التوزيع والأمور المادية وما شابه ؟؟ ألا تذكرين كل هذا ؟؟
قالت " سهام " في يأس واضح :
- كان هذا فيما مضى .. فلم يعد للحلم مكان لدي .
- لا أصدق ما اسمعه ؟، ومن يقول هذا ؟؟ " سهام " التي كانت شعلة من الحماس والنشاط ، التي كانت تبث التفائل والأمل في كل من حولها ، التي كانت تردد دائمًا أن الحلم أساس لكل عمل ناجح .
تتخلى عن حلمها بهذه البساطة .. حلمها في أن تفرض على العالم كله تصميمات شرقية عربية من تصميمها .. حلمها في ان تقول للعالم كله أن الذوق والرقي لا يعني العري والإبتزال .. من كانت خبيرة الأزياء بيننا ونستشيرها في كل كبيرة وصغيرة في هذا الأمر .. تدع نفسها سجينة غرفة مظلمة .. !!
وهل تأخرك في الزواج يجعلك بهذا اليأس والأحباط ؟؟
نظرت لها " سهام " ولسان حالها يقول - إنكِ لا تشعرين بما أنا فيه -
تكمل صديقتها حديثها غير ملتفتة لنظرتها قائلة :
-أنا لا أنكر أن الزواج أمر ضروري في حياة كل إنسان وأنه حلم الفتاة الأعظم .. لكن هو في الأخر رزق ونصيب .. إن لم يكن من نصيب فتاة ما هذا الرزق أيعني هذا أن تتخلى عن باقي احلامها .. لايعني ان تترك الحياة وتسجن نفسها بين جدران أربعة تؤدي بها للجنون .. أنت لديكِ موهبة لا تتركيها هكذا تخنق وتموت وتحرمي نفسكِ وغيركِ من جني ثمارها .
راجعي نفسك وان وجدتِ أن تلك الموهبة أختفت وأن الحلم القديم لم يعد لديه مكان في حياتك .. فتركِ نفسك سجينة هذه الجدران .. أما إذا كان مازال لديك القدرة على الحلم والعطاء فلا تحجبي تلك القدرة ابدًا ..
تركتها وذهبت بعد ان تركت لها بطاقة صغيرة تحتوي على أرقام هواتفها .
وظلت " سهام" بغرفتها وكلام صديقتها تردد بداخلها وييقظ حلم قديم كان في سبات عميق ، ووقع عينيها على ورقة وقلم ، أمسكت بهم وظلت ممسكة بهم لا تفعل شيئاً بعض الوقت ثم اخذت تخط على الورقة بعض الخطوط وإنهمكت في عملها لبعض الوقت لتخرج في النهاية تصميم لزي نسائي في غاية الروعة .
أخذت تنظر له ودموعها تغرق وجنتيها لقتد استيقظ الحلم وأخذ يطالب بالخروج إلى الشمس .. أمسكت هاتفها المحمول واجرت مكالمة لأول مرة منذ أشهر وما أن سمعت صوت محدثتها حتى قالت :
- أنا معكِ .. لتحقيق الحلم القديم .


*******************
" تمت بحمد الله "
*******************

ليست هناك تعليقات: